الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال صاحبُ هذا القول: يُقَالُ: رَجُلٌ شَنْآنُ، وامْرأةٌ شَنْآنَةٌ، كنَدْمَانَ، ونَدْمَانَةٍ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد وحكي: رجل شَنْآن، وامرأة شَنْأى كـ «سكران وسكرى» وقياس هذا أن يكون من فعل لازم، ولا بُعْدَ في ذلك، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي، قالُوا: فَغَرْتُ فاه، وفَغَرَ فوه أيْ: فَتَحته فانفتح، وإنْ أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ، ويَكُونُ مُضَافًا إلى مفعُولِه، أيْ: بُغضكم لِقَوْم، فحذف الفاعل، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافًا إلى فاعلِهِ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ، فحذف مَفْعُولَهُ.والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَرًا وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَرًا قَوْلُ الأحوصِ: [الطويل]
أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة، وحذف الهمزة ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ: إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأسًا، كما قُرِئ {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} [المدثر: 35] بحذفِ همزة «إحْدَى» لكانَ قَوْلًا يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله، و«الشَّنآن» بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ.قال سِيبَوَيْه: كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ «فَعَلاَن» بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على «فَعَلاَن» بالفتح، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدرًا، قالُوا: شَنِئَ يَشْنَأُ شَنْئًا وشَنآنًا مُثَلَّثي الشِّين، فهي سِتُّ لُغَاتٍ.وَقَرَأ ابْنُ وُثَّابٍ، والحسنُ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ {يَجْرِمَنْكُمْ} بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو: «لا أريَنَّكَ هاهُنَا» و{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] قالَهُ مَكِّيٌّ.قال القَفَّالُ: هذا معطوفٌ على قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} إلى قوله: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} يعني: لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ عَنِ المسْجِد الحرامِ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى به.قال محمدُ بنُ جَرِير: هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ «الحُدَيْبِيَةِ»، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا على العُدْوانِ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر تَعَدَّى ذلك الآخرُ عليه، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضًا على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى.قوله سبحانه وتعالى: {أَن صَدُّوكُمْ}.قرأ أبُو عَمرو، وابْنُ كَثِيرٍ، بِكَسْرِ {إنْ}، والباقُون بِفَتْحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ، أيْ لا يَكْسبَنَّكُمْ أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْم لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ، وقد اسْتَشْكَلَ الناسُ قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ «الحُدَيْبِيَة» وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ.وأيضًا، فإنَّ «مَكَّةَ» كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها.قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما: هذه القراءةُ مُنْكَرَةٌ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ.قال شهابُ الدِّين رحمه الله: ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ:أحدهما: ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعًا عليه.وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ، فصاد الصدُّ أمرًا مُنْتَظَرًا.والثاني: أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ كان مُتقَدِّمًا على نُزُولِها، فيكون المَعْنَى: إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ الذي وقع زمن «الحديبية» «فَلاَ يَجْرِمَنكُم».قال مَكِّي: ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: [الطويل] وذلك شَيْء قد كان وقع، وإنما معناهُ: إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ، يَعْنِي: وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ.وقال مَكِّي أيضًا: ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ: أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، بِكَسْر «إنْ» لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ، فَفَتْحُ «أنْ» لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ، وَيُؤيِّدُ هذه القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {إنْ يَصُدُّوكُمْ}.قال أبُو عُبَيْدَة: حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ، قَالَ: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال: وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام «الحُدَيْبِيَة».ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم، فقال: أصلُ تركيب الآية الأولى {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا.وأصلُ تركيب الثَّانِيَة: {ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}.ونَظَّرَه بآيةِ البقرةِ يَعْنِي: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67]، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ القرآنِ عَنْه، ولَيْست الجملةُ- أيضًا- مِنْ قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} وبَيْنَ قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْمًا، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيدُ تَوْكيدًا وتَسْديدًا، وهذه مفيدةٌ حُكْمًا جَدِيدًا كما تقدم.وقوله: {أنْ تَعْتَدُوا} قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر، فمَنْ كَسَرَ {إنْ صَدُّوكُمْ} يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً لـ {قَوْم}، أيْ: شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها الجَرُّ والنَّصْبُ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم.قال الزَّمخْشَرِيُّ: والمعنى: ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.قال أبو حيّان: وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ «جرم» حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون {أنْ تَعْتَدوُا} في مَحَلِّ مفعول به، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر.قال شهابُ الدِّين: هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه.وقد تقدم قراءةُ البَزِّي في نحو: {ولا تَعاوَنُوا} وأنَّ الأصَل: «تتعاونوا» فأدغم وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267]. اهـ. باختصار.
|